Thanatosis

Multifarious Writings

من بيرك إلى الثورة المحافظة

“لقد تم تشكيل دستور عام 1795 من أجل الإنسان. بيّد أنني لم أرَ إنسانا في العالم. رأيت فرنسيين وإيطاليين وروسًا إلخ، وبفضل مونتسكيو، عرفت أنه يمكن أن يكون المرء فارسيًا. أما “الإنسان” فلم أقابله في حياتي أبدا. “

ـــــ جوزيف دو ميستر

أهم فكرة أتى بها عصر التنوير هي “الإنسان” الذي لا يرد إلى أي أمة ولا يعرف أي واقع تاريخي محدد، والتي تنطوي على التخلص من الإرث التاريخي بكل تعقيداته هائلة. من حملوا لواء هذا الفكر هم أولئك الذين وصفهم روسو بأنهم “... يبررون حبهم لأوطانهم بحبهم للبشرية جمعاء؛ ويتفاخرون بمحبة الجميع، حتى يكون لهم الحق في عدم حب أي شخص”. ذاك الإنسان الذي تساءَل دو ميستر عن وجوده في اعتباراته حول الثورة الفرنسية هو المبدأ الأول Arche الذي تدور حوله كل مسلمات هذا العصر، وهو ليس الإنسان الذي نعرفه ونراه في واقعنا، بل هو إسقاط فاوستيّ لحضارة تريد أن تخلق ذاتا حرة من كل شيء، حتى من نفسها، لتستأثر بكل مجالات الحياة.

على الضد من ذلك، اتسم الفكر المحافظ، المعادي للميول الثورية، التي تؤسس قصورا في الهواء، بنزعة محلية وخصوصية. فنجد إدموند بيرك، الذي اعتبره المؤرخ الألماني فريدريك مينيك أهم أباء الفكر المحافظ، يؤكد على “الروابط التاريخية والمجتمعية” التي جاءت من الأسلاف بوصفها أساسا راسخا للتنظيم السياسي والاجتماعي، معارضا بذلك “ النزعة الكونية” التي اختص بها الفكر الليبرالي الإنكليزي. اعتبر فيرنر سومبارت، المعروف بعداءه لـ”حضارة التجار”، بيرك نقيضا للروح البريطانية، التي تمثل انتصار التاجر على المحارب والنزعة النظرية والنفعية على روح البسالة التي يختص بها المحارب الألماني الذي يعيش نحو الموت متقبلا مصيره بصورة بطولية، نافيا بذلك كل مُثل التنوير التي رسخت مفهوم الإنساني النفعي الذي يسعى إلى مضاعفة مكاسبه بأكبر صورة ممكنة. تبلورت هذه النزعة الخصوصية في نوع من الوجودية التاريخية الجماعية في ألمانيا التي عرفت بحداثتها المضطربة وسخطها على تقاليد التفاؤل الفرنسية وعدائها لمثل الحرية والإخاء والمساوة. نجد جذور هذا السخط عند مؤلف مولد التراجيديا، الذي رأى في كومونة باريس تجسيدا ثانيا للتفاؤل السقراطي الذي عدّه آنذاك تكرارا للرعونة التي قوضت النظرة التراجيدية للحياة واستبدلتها بعبادة الحقيقة والمعرفة النظرية. في المجمل، وقف الفكر الخصوصي على الضد من الروح الثورية، روح التفاؤل العلمي والمساواة والإنسانية، بداية من دو ميستر ودو بونالد وكورتيز وفلاسفة الثورة المضادة الكاثوليكيين وحتى الفكر الألماني بعد الحرب العالمية الأولى، الفكر الذي جاء في وقت تآكل القيم الدينية التقليدية واستبدالها بمُثل الأمة والإخاء والاشتراكية القومية وتقبل حقيقة الأمة كمصير تاريخي. لقد قيل أن المحافظة الأوروبية كلها ترجع في أصلها إلى إدموند بيرك ونزعته الخصوصية. لكن تلك “الخصوصية” مرت بتحولات هائلة إلى أن بلغت ذروتها في ألمانيا بين الحربين. سأركز في هذا المنشور على “الخصوصية” التي اعتبرها فريدريك مينيك من المُشكِّلات الأساسية للفكر المحافظ الألماني الذي أخذَ هذا التقليد إلى نتيجته القصوى.

لم يكن بيرك فيلسوفا سياسيا كأولئك الذين وضعوا فلسفتهم في نموذج نظامي، بل في الواقع، لم يكتب الرجل أطروحة واحدة حول الفلسفة السياسية كهوبز ولوك وبودان. على أنه عهد السياسية كرجل قضى معظم حياته سياسيا متصلا بالأحداث وعضوا في مجلس العموم. وقف بيرك على الضد من تطفل النزعة النظرية على السياسة، النزعة التي مثلها معظم فلاسفة زمانه، الذين أيدوا كل ما هو حقير بحسبه، وانتزعوا الإنسان من واقعه الاجتماعي والتاريخي ليسجنوه في أنظمتهم النظرية التي تبدد الحرية والأصالة. في خطاب ألقاه عام 1785، شجب بيرك النزعة الفكرية التي طغت على الفكر السياسي، ولما اندلعت الثورة الفرنسية رأى فيها تجسيدا لتلك النزعة التي ظل ينتقدها سنوات طوال. تتحقق غطرسة النزعة الفكرية وفقا لبيرك في افتراض إمكانية التنبؤ بمجريات الأمور في الواقع السياسي، فلأن “النظرية” قد وضعت مثُلها في صيغة كونية لا تقبل المساومة، يتبع ذلك بالضرورة قواعد كونية تهدف إلى تحقيق هذه المثُل، مما يحول النزعة الثورية إلى ماكينة توظف كل ما أمامها كوسيلة بغية تحقيق هذه المُثل المزعومة. الفيلسوف النظري يرفض مشروطية الواقع وتقلبه من حال إلى حال فيحسب أن نظريته مقدر لها أن تحتوي الواقع بأسره، ومن المقاومة الحتمية التي تفرضها الظروف المتغيرة والمتقلبة، ينشأ التطرف عند “النظري” فلا تسعفه الظروف ولا يرضيه الواقع فينتهي به الأمر إلى حالة من اليأس والسخط، إذ تتصادم رغبته في احتواء الواقع بأسره في نظريته بظروف لا تنتهي أبدا. رأي بيرك في مشروطية الواقع وتقلبه دليلا بينا ينفي كل ما هو كوني في السياسة. في هذا السياق، يظهر أصحاب النزعة النظرية كأشخاص يحاولون بناء سفينة تستوعب المحيط بأسره، لتنهي فوضويته وتقلباته، فكل موجة تضرب سفينتهم وتبيّن بطلان نظامهم هي بمثابة تهديد، وهم، لجهلهم وتفاؤلهم الطائش، يحسبون أن هناك سفينة قادرة على التصدي لهذا التماوج نهائيا. على الضد من ذلك رأى بيرك أن السياسية معنية بإمكانية بناء سفينة قادرة على التفاعل المستمر والمتجدد مع هذه التقلبات، بدلا من حلول أولئك “النظريين” الذين يودون إنهاء المحيط لتظفر حلولهم بالنصر، النصر على الحقيقة التي لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال. هاهنا كما نرى، يلعب التضاد بين النظرية والتطبيق دورا رئيسيا في محافظة إدموند بيرك: 1- النظرية دائما بسيطة لا تراعي مشروطية الواقع، وهي بطبيعتها ثابتة وتقدم حلولا كونية لمشاكل متغيرة، على الضد من التطبيق والفعل السياسي اللذان يأخذان في اعتبارهما مشروطية الواقع وطبيعته العصية على الاختزال والتأطير 2- الطبيعة الكلانية للنظرية تنفي إمكانية المساومات الضرورية في أي سياق سياسي وبالتالي تؤخذ الخلافات إلى نتائجها القصوى 3- النظرية تحذف كل ما هو مناقض لنظامها وتغض النظر عنه وتعتبره بمثابه حالة شاذة يجب أن تنتهي بوصفها خللا يعكر صفو النظام. هذا السعي نحو الوضوح في عالم لا يمكن أن تتضح فيه الصورة نهائيا ينفي إمكانية السياسة ويحولها إلى متاهة. ناقض بيرك الحالة النظرية بأخرى عملية تعكس لنا طبيعة الرجل كسياسي قبل أن يكون فيلسوفا، وفقا له، الرجل السياسي عملي بطبيعته، مرتبط بواقعه التاريخي، وولاءه مفترض مسبقا بحكم مسؤوليته. لا يمكن لسياسي أن ينتزع نفسه من العالم ثم يقول أأنتمى لفرنسا أم لإنجلترا؟، لألمانيا أم للإنسانية؟، فالسياسي بطبيعته ينطلق من واقع ملموس، يجد نفسه منتميا إلى قوم وعلى عاتقه مسؤولية لم يخترها، وكل اختياراته مفروضة عليه بسبب الظروف أو العناية الإلهية. كما لا يرى المرء منا لقبه وتركة أبيه موضوعا للبحث النظري لا يرى السياسي مسائل السياسة كشيء غريب عنه، فهذا واقعه الذي عليه أساسه تقوم مكانته كسياسي. لا يوجد سياسي ينطلق من اللاشيء، أما النظري فيمكنه أن يفعل ذلك، لكن طبيعته السياسة هي أنه لا توجد نقطة “اللاشيء”، إنها إحدى أوهام الحيادية النظرية، التي تسعى إلى ابتلاع الواقع السياسي في نموذج به تستقيم الأمور طرا. الأهم من ذلك، أشار بيرك إلى أن الفلسفة والنزعة النظرية تضمن إمكانية تعليق الحكم حينما تكون المسألة عصية ومبهمة، بينما في الواقع السياسي لا مكان لتعليق الحكم، إذ السياسة تقوم أساسا على تنظيم أمور البشر وعليها تتوقف حيوات آلاف مؤلفة، وفي مثل هذه الحالة لا يحظى السياسي برفاهية الفيلسوف، فلا مكان للمحاورات بخصوص ماهية الأشياء، وفي النهاية، سيقرر السياسي بناء على أعراف وتقاليد راسخة واقعيا، بحكم الأمر الواقع.

أخيرا، تتعلق القرارات السياسية بالآراء والمسائل العامة، حيث يتعين على السياسي أن يأخذ في حسبانه كل ما هناك في الواقع، فيتأمل أحوال الناس ومتصرفاتهم، حتى الآراء الخاطئة والخرافات هي جزء من الواقع الفعلي، والصورة التي يجب على السياسي أن يتعامل بها مع مثل هذه الآراء تختلف في واقعها عن الصورة النظرية التي تتخلص منها دفعة واحدة، في النهاية التعامل مع الرأي الخاطئ يختلف في حالة الفيلسوف عن حالة السياسي، إذ في الحالة الأولى يكون الرأي مجرد حجة تتبدد بدحضها، بعكس الحالة الثانية التي تحتم أخذ كل الآراء الموجودة في الحسبان واختراع طرق للتعامل معها، وفي حياتنا لم نسمع أبدا برأي تبدد من الواقع لمجرد أنه رأي خاطئ. هذه الواقعية البيركيّة، ستلعب دورا مهولا، كما أشار فريدريك مينيك، في تشكيل الفكر الألماني الذي تابع تقاليد دحض الفكر النظري الذي يبني قصوره في الهواء.

إبان الحقبة الهتلريّة، كتب كارل مانهايم مقالة عن الفلسفة المحافظة، متأثرا بالآراء المحافظة والمعادية للنزعة النظرية والثورية، ووضح فيها كيف أن فلسفة بيرك، المحافظ الإنجليزي العتيد، أثرت في كل التيارات المحافظة الألمانية، ورأى أن كل أشكال الفكر المحافظ في أوروبا هي بصورة أو بأخرى امتداد لآراء بيرك، ذاك المنتمي إلى أمة التجار. على نفس المنوال، مدح شبينجلر، الذي أذاع رؤية أفول الغرب، فلسفة بيرك باعتبارها تفكيكا لمفهوم “الإنسان”، المُنطلق الأول للفلسفة الثورية على اختلاف مشاربها وضروبها. عارض شبينجلر الرؤية التقدمية للتاريخ، ضاربا بكل الرؤى التفاؤلية التي هيمنت على عصره عرض الحائط:

“إنني في الموضع الخاوي من الخط التقدمي, أشاهد الصراع الذي يحدث لعدد من الثقافات الجبارة, ولكل منها حياتها الخاصة وموتها المحتم. كل ثقافة تملك أسلوبها الخاص في التعبير عن نفسها. إنها تصعد, ثم يشتد عودها, وبعد ذلك تتفسخ, وترحل ولا تعود أبداً. إنني أنظر لتاريخ العالم كلوحة تملأها التشكلات والتحولات اللامتناهية للثقافات, بدءا من الصعود المُبهِر للثقافة وانتهاء بالهُبُوط الشنيع لصورتها العضوية. أما المُؤرّخ الصرف والمُحترف, فلن ينظر للتاريخ إلا كدودة شريطية تكد وتجتهد كي ينمو ذيلها بمرور الزمن”.

وبنفس طريقة سومبارت، سخر شبينجلر قلمه لنقد عقلية التاجر، بعد أن شهد حكم المال في عصره يستفحل ويخضع السياسة لسلطانه، وانتهى إلى تمجيد المحارب الألماني، الذي ينطلق من واقع تاريخي ملموس لا يقيم وزنا لتأملات النظريين:

” إن السيف ينتصر على المال, وإرادة السيد سوف تقهر إرادة التاجر مرة أخرى, سيتم إسقاط المال وإلغاءه عبر الدم. إن الحياة هي ألف وياء. وإن المُحيط الكوني مُختزلٌ في الذرة الصغيرة. كذلك هو الأمر في دراما الثقافات العُليا وعالمها العجائبي والمتكون من الديانات والفنون والأفكار والمعارك والمُدن المُنهارة بعد عودة الحقائق الفطرية وأولها قداسة الدم, هذه القداسة الخالدة والمُتدفقة مثل سَيلان المُحيط الكوني.”

وفقا لشبينجلر، ذاك الإنسان الذي تدور حوله الفلسفات الحديثة ليس سوى مفهوم ينم عن جهل بواقع التاريخ، إذ في واقع الأمر، لا يمكننا الحديث عن تاريخ “ الإنسان” وإنما هناك تاريخ ثقافات وحضارات تتلاقى وتتفاعل، لكنها مع ذلك تظل محتفظة بنظرتها وميولها الخاصة، التي تشمل كل ما يخصها، بداية من الكوزمولوجيا والأساطير وحتى العلوم والثقافة. لذا ليس ثمة إنسان منعزل عن هذا التاريخ الذي شكل وجوده في المقام الأول. ليس من الغريب إذا أن يتلاقى شبينجلر مع إدموند بيرك، ففي فلسفتهما نقد لاذع للنزعة النظرية ونفي تاريخية الإنسان. على نفس الخطى، نفى إرنست يونجر مفاهيم الإنسانوية والحقوق العالمية بوصفها “مناقضة للروح الألمانية”، واعتبرها قيما تجسد انتصار البرجوازية برعونتها وسفهها وحبها للسلام والسكون وميولها النفعية، إذ رأى يونجر في هذا النموذج نفيا لما عهده كمحارب قضى أعظم أيامه في ساحة المعركة، فأعلن صراحة أن البرجوازي نموذج أحط قدرا من المجرم، مؤكدا على رؤية شبينجلر وسومبارت. في نفس السياق، يأتي كارل شميت، الفيلسوف الذي سعى إلى إنهاء النزعة النظرية في كافة المجالات التي شغلته، بداية من القانون وحتى الفلسفة والثقافة، فنجده يستعير مفاهيم سياسية راسخة تاريخيا في فلسفته السياسية، وينفي إمكانية إقامة سياسية ليبرالية كونية، إذا السياسة تقوم على التفرقة بين العدو والصديق، التفرقة التي تنفيها الليبرالية، التي رأى فيها شميت، تحييدا ونفيا للبعد السياسي للإنسان، البُعد الذي أخذ مكانة أنطولوجية عنده وتغلغل إلى كافة الأصعدة. تقوم حقيقة “السياسي” عند شميت على واقع ملموس، ألا وهو تعدد الهويات والمعتقدات والأديان والرؤى الكونية، بصورة لا تقبل أي مساومة، من ناحية، وعلى جسامة وجدية الوجود البشرية من ناحية أخرى. بالنسبة لشميت، لا يمكن إنكار هذا البعد في أي حال من الأحوال، ويرجع ذلك إلى نظرته الأنثروبولوجية الواقعية التي تنفي إمكانية إنهاء العنف من الوجود البشري. كما نرى تستمر تيمة الخصوصية والتاريخانية والعملية ومعاداة التطفل النظري في الفكر الألماني المحافظ، تماما كما أكد مانهايم.

وفقا لمانهايم، أمد بيرك التقاليد المحافظة برمتها بمقولة “التاريخ”، باعتبارها مرتكزا أساسيا يناقض التوجهات النظرية. لكن التحولات التي مرت بها الحضارة الغربية في العهود الأخيرة، التحولات التي نصرت كل ما شجبه المحافظون الألمان (التاجر، النزعة النظرية، النظرة البرجوازية، نفي السياسة)، قد قوّضت مقولة التاريخ وحولتها هي الأخرى إلى شيء في حاجة إلى التبرير والمنافحة، فما كانت تاريخية الألمان تلك هي تاريخية بيرك، التي انطلقت من واقع سياسي أكثر رسوخا وثباتا من الواقع الألماني المضطرب، إذ شعر الألمان أن التاريخ ينتزع من تحت أقدامهم، فقد أعلن نيتشه موت الرب ومعه انهيار المنظومة التي شكلت الإيمان الأوروبي طيلة القرون الماضية، ثم أعلن شبينجلر موت الغرب ومأزق الإنسان الفاوستي، وتبعهما شميت الذي رأى كيف تفقد السياسة سلطانها هي الأخرى وتستبدل بهيمنة الاقتصاد وكيف يستعاض عن الانتماءات الواقعية بانتماءات مجردة لا تمت للواقع بصلة. الآن بدا وكأن كل انتماء يتبدد وكل واقع يستحدث وكل تاريخ يتلاشى، فبات من غير الممكن أن تتوافق المحافظة مع الواقع الفعلي، الواقع الذي احتج به بيرك في حملته التي شنها على النظريين والفلاسفة من أهل زمانه.

في نفس السياق، برز توجه أنثروبولوجي أسماني nominalist يناقض كل “الكليات” التي حددت توجهات “أعداء ألمانيا”، وهو توجه يرجع في أصله إلى فلسفة القرون الوسطى، وتجدد على يد فيلسوف المطرقة، الذي استحضر الجدل المدرسي، لينتقد “الكليات” باعتبارها تجريدات فارغة لا تمت للواقع بصلة، الواقع الذي تحكمه الصيرورة وإرادة القوة، التي تجعل كليات الإنسان هباء منثورا، مآله مقبرة التاريخ. كذلك هاجم نيتشه النزعة الكونية التي ولدت المسيحية وكذلك التوجهات الثورية الحديثة. ورث هايدجر هذا التوجه وأعلن في أكثر من مناسبة عن معارضته للمفاهيم الكونية، ومع أن هايدجر لم يكن فيلسوفا سياسيا في المقام الأول، إلا أنه لعب دورا أساسيا في نزع الطابع الكوني عن الذات في الفلسفة وهدم التقاليد الميتافيزيقية التي تنفي التاريخانية. أشار هابرماس إلى وجود علاقة بين توجهات هايدجر الأيديولوجية وعمله الأعظم الوجود والزمان، وعلى الرغم من أنه لم يقصد بذلك اختزال هذا العمل في جوانب أيديولوجية، إلا أنه رأى في أفهومة الدازاين والتاريخية ونزع الطابع الكوني عن الذات تأكيدا على نفس توجهات عصره. على أن هذه النقطة إشكالية للغاية ولا يمكن التأكد من مدى الارتباط في هذا الصدد، لكن واقعا، لعبت القوالب التي استخدمها هايدجر في عمله دورا في بعض التوجهات القومية، وإن تم ذلك بصورة اعتباطية تختزل مفاهيم “الوجود في العالم” و”الدازين” وتحصرها في نوع من القومية الضيقة.

حتى ساعتنا هذه، لم تحسم مسألة العلاقة بين هايدجر والاشتراكية القومية، إلّا أن هناك بعض التفسيرات تسعى إلى نزع الطابع السياسي عن الفيلسوف بصورة تامة، وهذا ما لا يتوافق مع ما صرح به هايدجر نفسه إبان تلك الحقبة. علق هايدجر على كثير من أحداث عصره السياسية والثقافية، وحتى على الأحداث المرتبطة بالحرب. وأظهر آرائه حول الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية والبلشفية، وفي نقده لكل هذه الأيديولوجيات، تحضر التيمة الأساسية التي اختص بها الفكر الألماني المحافظ، ولو أنها قد أخذت أبعادا أكثر عمقا عند هايدجر لارتباطها دائما بنظرته التاريخية والفلسفية الثاقبة لتاريخ الحضارة الغربية وتقاليدها الميتافيزيقية.

نجد عند هايدجر كذلك ارتباط الخلاص الغربي بالحضارة الألمانية ومصيرها، إذ رأى أن ألمانيا مقيدة بمهمة يتعين عليها إنجازها. في هذا الصدد، تكررت تيمة الصراع. بالنسبة لهايدجر، وجد الصراع أنموذجه التاريخي في حروب الفرس والإغريق. علاوة على ذلك، أشار هايدجر مرارا إلى مواجهة العالم الغربي (بلاد الإغريق) مع آسيا، والتفاعل الذي استقرت من خلاله بلاد الإغريق في آسيا الصغرى. كتب هايدجر عام 1939 أنه يتعين علينا ألا ننسى كيف أن الإغريق لم يصبحوا كما هم على الدوام من خلال عزل أنفسهم في نطاقهم الخاص، وأنه فقط عبر المواجهة الخلاقة والعنيفة مع العنصر الأكثر غرابة وعداوة، أي العنصر الآسيوي، حقق الإغريق تفردهم التاريخي وعظمتهم الحضارية.